في ذات صباح في 1998 استيقظ العالم ليشهد واقعا جديدا: فقد أصبحت باكستان التي لم يكن قد وجه اليها انتباه اعلامي تقريبا، أصبحت أول دولة مسلمة ذات قدرة ذرية أخذت تقوى. وليست الهند وحدها التي هي الجارة والعدو هي التي دُفعت فجأة الى واقع جديد على خلاف رغبتها. فقد تغير نظر العالم منذ ذلك الحين لباكستان واضطر الى التعاون معها برغم أمراضها. وأصبح لواشنطن منذ 1998 مهمة باكستانية واحدة هي كيف يُمنع وقوع القنبلة الذرية في يدي نظام خطير.
وربما نستيقظ ذات صباح في المستقبل لنشهد واقعا جديدا آخر مع الكثير من الانتباه الاعلامي هذه المرة فيتبين لنا ان طهران انضمت الى النادي الذري. وفي هذه الحال لن يجب عليهم في واشنطن والغرب ان يُصدعوا رؤوسهم في كيفية منع القنبلة من الوقوع في أيدي خطيرة. فقد كانت القنبلة أو القدرةعلى انتاجها على الأقل من البدء في يد نظام آيات الله الخطير بحسب تعريفه.
قبل اسبوع اجتمع جزء مركزي من العالم في قاعة المؤتمرات في اسطنبول بقصد منع مفاجأة ذرية ايرانية كما كانت الحال مع باكستان. وقادت المسؤولة عن ملف الخارجية في الاتحاد الاوروبي، كاثرين آشتون، الوفد الذي اشتمل على الاعضاء الخمس الدائمات في مجلس الامن وعلى المانيا ايضا. وقبل ذلك بمساء التقى الوفد الروسي من غير الشركاء مع الايرانيين في مبنى القنصلية الايرانية في اسطنبول. ولم يستطع مراسلون اجانب كانوا في اسطنبول ألا يفكروا في مدينة طروادة المجاورة. وكان ذلك تأليفا مطلوبا بين الجغرافيا والواقع في ضوء السلوك الروسي في اسطنبول، بل ان الروس لم يكونوامحتاجين الى حصان يختبئون فيه بل عبروا عن تأييدهم للايرانيين على رؤوس الأشهاد.
بل أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريبكوف، الذي ترأس وفد دولته عشية المؤتمر، أنه ‘لا يوجد شيء يثبت ان المشروع الذري الايراني هولأهداف عسكرية’، وهكذا لم تعد طهران وحدها.
لنبدأ أمر اسطنبول من النهاية خاصة برغم ان اسطنبول بالنسبة للايرانيين هي البدء أصلا. فالتفاوض على مراحل. وقد باركت وسائل اعلام ايرانية التي حضرت المؤتمر جموعا جموعا وأبلغها الوفد آخر ما يستجد مرة كل ساعة، باركت النتائج الايجابية للقاء وأكدت التوجه ‘الايجابي’ للوفود. اهتموا في ايران بابراز اعتراف الغرب بـ ‘حق ايران في تطوير مشروع ذري’. وفي المؤتمر الصحفي بعد نهاية يوم طويل كان يبدو بحسب الكلام الذي قاله رئيس المشروع الذري الايراني ورئيس وفد دولته سعيد جليلي ان ايران مُنحت في اسطنبول إذنا بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم بسبب انضمامها الى الوكالةالدولية للطاقة الذرية ولأنها في الأساس موقعة على ميثاق عدم نشر السلاح الذري.
‘أقر الاتحاد الاوروبي من جديد حق ايران في الطاقة الذرية’، كان هذا هو العنوان الرئيس في الصحيفة الحكومية ‘ايران ديلي’، أما في مقالة افتتاحية لصحيفة ‘جبان’ المقربة جدا من التيار المحافظ جدا في ايران فجاء ان ‘الغرب تفهم ضرورة الاعتراف بحق ايران التام في نشاط ذري لأهداف سلمية’. وأبلغت الـ ‘جمهوري اسلامي’ اعتراف الولايات المتحدة آخر الامر بحاجة ايران الى قدرة ذرية. ‘يجب على امريكا ان تترك ألعابها السياسية وأن تعترف بالواقع’.
يلعبون على الزمن
كانت المشكلة الكبيرة في لقاء اسطنبول ان المخفي أكبر من الظاهر. والذي كان ظاهرا هو رغبة جميع الأطراف التي كانت هناك في اظهار نجاح أو رضا على الأقل. والسبب واضح جدا، فالعالم ربما يخشى القنبلة الايرانية لكنه أشد خشية من القصف الاسرائيلي. وفي أحاديث مع مراسلين اجانب في اسطنبول كان من الممكن حتى ان نشعر بأنه يمكن العيش مع قنبلة ذرية في حين القدرة على العيش مع هجوم على ايران أقل من ذلك.
كانوا يستطيعون في القدس بالطبع إبداء قلق من انجاز الايرانيين الكبير في اسطنبول وستكون متابعة المحادثات في بغداد في 23 أيار كما أرادوا بالضبط. لكنه كانت هناك ايضا وفود اوروبية أرادت ان تُهديء القدس. والفرنسيون كعادتهم منذ تم تجديد المحادثات في 1 تشرين الاول 2009 أظهروا تشددا أكبر بكثير. وبالنسبة للوفود الاوروبية ومنها الوفد الالماني يوجد اليوم واقع جديد على الارض وهو العقوبات الجديدة التي هي شديدة ولم يسبق لها مثيل. ها هي ذي ايران تجد نفسها مقطوعة عن نظام سداد الدين الدولي (سويفت) ومن الاول من تموز ستكون مقطوعة عن سوق نفط الاتحاد الاوروبي، وفي الثامن والعشرين من حزيران ستقاطع واشنطن البنك المركزي الايراني وكل شركة تتاجر معه، وسوريا الحليفة في ازمة، بل أصبحت تركيا فجأة التي نجحالايرانيون بأن يجدوا تفاهما معها حتى لو كان في الظاهر فقط أصبحت فجأة خصما أخذت تراود العربية السعودية بجدية.
ربما لهذا السبب يوجد من يرون عامل الزمن عاملا يعمل في غير مصلحة ايران، لا كما ينظرون الى الامر في القدس. ويمكن ان نرى في الحقيقة في كل يوم يمر يوما آخر يُقرب النظام الايراني من شهادة تأمينه التي هي القنبلة الذرية، ويوجد من يرون كل يوم يمر يوما آخر في حرب النظام الايراني بلالمجتمع الايراني ايضا من اجل البقاء بسبب وجود العقوبات الشديدة.
جلست في واحد من المطاعم الأفضل في اسطنبول مع منظر طبيعي ساحر على البوسفور وسمك في الطبق جاء من مصدر الماء ذاك، مع دبلوماسي رفيع المستوى أوضح لي عشية المحادثات لماذا من المهم للعالم اليوم ان يعرض مؤتمر اسطنبول على انه نجاح: ‘ان الاخفاق في اسطنبول هو في واقع الامر اعلان حرب. وسيبدأ العد التنازلي لهجوم على ايران في اللحظة التي يعلن فيها الجميع ان ايران متجهة الى القنبلة وان الحوار معها لا أمل منه’. كيف يستطيع العالم اليوم الذي يعارض بشدة ضربة عسكرية ألا يعطي الحوار أملا حتى لو كان يبدو حوارا بين صُم. وقد أوضح لي ذلك الدبلوماسي قائلا: ‘كان يفترض ان يكون مؤتمر اسطنبول آخر احتمال لمنع حرب مع ايران’، لكن مؤتمر اسطنبول كما عرّفته الصحيفة الاسبوعية الفرنسية ‘ليه بوان’ هو ‘تمخضالجبل فولد فأرا’.
ان الامر المهم في هذه القصة هو ما ستفعله واشنطن. فهل هي مستعدة لأن تعيش مع ايران الذرية؟ وهل استطلاعات الرأي السيئة بالنسبة لبراك اوباما الذي رأى ان ميت روماني يتقدمه هذا الاسبوع، ستفضي الى تغيير من قبل ادارة اوباما؟ وقد تكون زيارة الرئيس الامريكي للقدس في الصيف ليبحث هناالقضية الذرية خيارا آخر.
ومن جهة ثانية قد تفضي الاشاعات عن اتصالات بين ايرانيين وامريكيين من وراء ستار ومن وراء ستار محادثات ‘الخمس بزيادة واحدة’ الى تفاهمات امريكية وتُمكّن الايرانيين من تخصيب اليورانيوم بدرجة منخفضة والعودة الى صيغة 2009 العجيبة التي تنقل ايران بحسبها اليورانيوم المخصب وتحصل على قضبان وقود ذري مقابل ذلك من فرنسا وروسيا. وكانت ايران آنذاك هي التي نكصت عن الاتفاق. وزعم جليلي في اسطنبول ان الغربعرض وتراجع عن ذلك.
عرض الساذجين
شاهدت هذا الاسبوع في اسطنبول كيف يعمل الايرانيون بالضبط وهم الذين يرون أنهم يعملون بصورة صحيحة. جاءوا في الحقيقة في وفد من اربعة اشخاص فقط للمحادثات، لكن مع جيش من المراسلين ومساعدي الوفد. وقد أصبحت القنصلية الايرانية في اسطنبول مقر عمل ذريا. واضطر كل من أرادان يلتقي رؤساء الوفد الى ان يأتي الى مبنى القنصلية.
جاء الايرانيون متسلحين بلافتات ملصقة علقوها على الجدار كُتب فيها: ‘الطاقة الذرية للجميع، والسلاح الذري للا أحد’. وفي البداية عارض المنظمون الاتراك تعليق اللافتة في مركز المؤتمر الصحفي، لكنهم خضعوا بعد ذلك للضغط الايراني. ولم ينس الايرانيون بالطبع ان يضيفوا الى تلك اللافتة صورعلماء الذرة الايرانيين الخمسة وقد صُور اثنان منهم مع أولادهما.
ان الارادة الخيرة وربما تكون الوحيدة التي أظهرها الايرانيون في المحادثات كانت التخلي عن الشروط السابقة. ونجحوا في الالتفاف على طلبهم الذي لا هوادة فيه لتخصيب اليورانيوم مع الاعتراف الدولي بحقهم الشرعي في طاقة ذرية مدنية. ولم يمنعهم هذا بالطبع في اثناء المحادثات من إبداء البرود. مع بدء اللقاء طلب سعيد جليلي ان يذكر كيف أصدر الزعيم الروحي علي خامنئي الذي أرسله الى اسطنبول فتوى تعارض السلاح الذري. أعلن خامنئي ان السلاح الذري ‘دنِس’. وهو دنِس كثيرا الى درجة ان ايران تملك بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ شهر شباط في مواقع في نتناز وفي الموقع تحت الارض في مدينة قُم 5.400 كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.5 في المائة ومخزونا من 109 كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 20في المائة.
أراد الايرانيون ان يؤكدوا في اسطنبول ان هذه الكمية مسموح بها بحسب ميثاق عدم نشر السلاح الذري الذي وقعت عليه ايران بخلاف الهند وباكستان واسرائيل. لكن المجتمع الدولي على علم بحقيقة ان هذا الانتاج تم في الموقع تحت الارض في فوردو الذي أُنشيء سرا وتم الكشف عنه في 2009. ولايمنع شيء ايران اليوم من تخصيب اليورانيوم الذي في حوزتها والمُعد للقنبلة الى نسبة 90 في المائة.
طلب وزير الخارجية الايراني، علي أكبر صالحي، هذا الاسبوع من المجتمع الدولي ان يزيل العقوبات قُبيل اللقاء في بغداد في ضوء تنازلات ايران، بل قال ان ازالة العقوبات ستفضي الى حل الازمة الذرية الايرانية. وبمناسبة ذكر التنازلات نقول عن أية تنازلات يتحدث أصلا؟ ان طلب صالحي اتفق معالكلام الذي قاله لي جليلي في اسطنبول: ‘نحن غير مستعدين لقبول لغة التهديد والعقوبات. ان ايران لا تعرف سوى لغة التعاون’.
بيد ان واشنطن لا تنوي ان تقع في هذا الفخ، وقد بادرت واشنطن الى الرد بأنها لا تنوي ازالة العقوبات بل بالعكس يفترض ان تكون هي الشيء الذي يحث ايران على التنازل أكثر في التفاوض بعد ذلك. وواشنطن على يقين من ان العقوبات تسوق ايران الى مائدة التفاوض في موقف ضعف. والمشكلة هي انه يوجد من يرى مواجهة قريبة لا بين واشنطن وطهران بل بين واشنطن والقدس. ويتعلق الامر كثيرا هنا بوضع استطلاعات الرأي المتعلقة بالرئيس.فاستطلاعات الرأي السيئة ستحثه على مناهضة طهران وستحثه الاستطلاعات الجيدة على مناهضة القدس.
وفي الاثناء تزعم موسكو انه لا شيء يُظهر نوايا حقيقية عند ايران لانتاج قنبلة ذرية، لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أعلنت في تقريرها في شهر شباط هذا العام قلقها الحقيقي من ‘البُعد العسكري للمشروع الذري الايراني’. ‘في اسطنبول افتتحت بين ايران والمجتمع الدولي قناة جديدة. والسؤال الأكبر هو ماذا سنضع داخلها في العراق’، قال دبلوماسي غربي حضر المحادثات في تركيا.
ليست الذرة وحدها
يعتقد تريتا فارسي، الذي يتولى رئاسة مجلس الايرانيين في الولايات المتحدة، أنه قد كان في اسطنبول تقدم بسبب تنازلات الطرفين: ‘سيكون من المهم فياللقاءات التالية تجاوز المسألة الذرية’.
والقصد في واقع الامر الى محاباة ايران في كل ما يتعلق بالقضايا الاقليمية التي تريد ايران ان تكون أكثر مشاركة فيها، بل ان تحصل على اعتراف بأهمية مكانتها. وهناك من يرون اليوم احتمالا لمناقشة ايران في جملة قضايا منها موضوع حقوق الانسان في الجمهورية الاسلامية، وهذا بالضبط ما تريد ايران احرازه لأن هذه المحادثات تعطيها هواءا أكثر للتنفس. قضيت ساعات كثيرة في نهاية الاسبوع الماضي مع نظرائي الايرانيين. وكان من الممكن ان نشعر بأن حكومتي اسرائيل وايران نجحتا في الفوز بانجاز كبير: أما اسرائيل فبجعلها المشروع الذري الايراني مشروعا عالميا، والخوف الحقيقي من هجوماسرائيلي يحث العالم على العمل؛ وأما ايران فجعلت مشروعها الذري مصدر فخر قومي.
تعلمنا من اللقاء في اسطنبول شيئين رئيسين، الاول ان ايران فهمت ان التشدد لن يساعدها وليّنت لغتها. والثاني ان العالم كله لا يريد حربا في الخليجآثارها غير معلومة.
يمكن الآن ان نتوقع ازدياد الاختلاف الاجتماعي داخل ايران، لكن برغم ان الثورات العربية بينت للشعب الايراني انه يمكن اسقاط نظام حكم، فانها منحت ايران نظم حكم جديدة في تونس ومصر أصبحت اليوم أكثر عطفا على ايران. ونقول تلخيصا إننا حصلنا في اسطنبول على جو جديد لكن الواقع بقي الواقع القديم.